قبل سبع سنوات كتبها بخط يده “جبران لم يمت… و”النهار” مستمرة”. فماذا تراها تكتب “النهار” في لحظة رحيله؟ وكيف تراها تتجرأ على نعيه وهو قاهر الفناء وأسطورة الايمان أمام المصائب والشدائد؟
أسلم نزيل الغرفة 929 في مستشفى الجامعة الاميركية الروح بعد 38 يوماً من جولته الأخيرة في نزاع مضنٍ مع قدره، ولا نقول أمراضه.
عملاق الصحافة اللبنانية والعربية وعميد “النهار” ومعلم أجيالها المتعاقبة منذ تولى مبكراً مسؤولياته فيها وباني مجدها وصانع ألق الكلمة والفكر. النائب والوزير والسفير والديبلوماسي وصانع الرؤساء والعهود والسياسات في زمن مجد لبنان ومجد الرجال، كما في زمن الاحداث الكبيرة وزمن الكبار الكبار.
الصارخ “اتركوا شعبي يعيش” أمام مجلس الامن، ومطلق حقيقة “حرب الآخرين على أرض لبنان”، غسان تويني رحل بعد ثلاث سنوات من اشتداد جلجلة أقعدته حتى عن قلمه الساحر وافتتاحيات صباحات الاثنين، ذاك القلم الذي كان الاقرب التصاقاً بصاحبه الكبير والأحب اليه بعد احبائه. المؤمن الاسطوري الذي ذاق من تجارب قدره ما يفوق قدرة البشر على الاحتمال… من موت طفلته نايلة الى مرض زوجته ناديا وموتها، الى مقتل ابنه الثاني مكرم في حادث سير مفجع، الى ذروة الذروة في استشهاد ابنه البكر جبران في اغتيال وحشي… هذا المؤمن لم تفارقه شجاعة مذهلة حتى مع انقضاض هذا القدر على جسده المتعب فسرق منه القدرة على النطق وحرمه الكتابة في سنواته الثلاث الاخيرة وهو المالىء لبنان ودنيا العرب بموسوعيته المعرفية والصحافية في “النهار” والدراسات والمؤلفات والكتب.
86 عاماً من ملحمة انسانية مذهلة هي مزيج من كيمياء المجد الذي صنعه غسان تويني، أحد آخر الكبار والعمالقة في زمن التصق باسمه وطبعه بتوقيعه في الصحافة والفكر والديبلوماسية والسياسة ذات المعايير الاستثنائية، مقترنة بتجربة انسانية وشخصية لا يقوى على مواجهتها الا غسان تويني وحده.
معلم “النهار” والصحافة لا تقوى “النهار” على نعيه، بل تعاهد روحه وكل الارث الذي تركه للأجيال اللبنانية والعربية وما يمثل من امانة في عنق “النهار” على ان تبقى وفية لكل القيم والمعايير المهنية والوطنية والانسانية التي تختزنها سيرة كبيرها الراحل كما لكل حرف كتبه وكلمة قالها. وستبقى “النهار” مستمرة مستمدة من كبيرها الايمان في الاستمرار والشجاعة في الدفاع عن كل ما تركه لها مع الشهداء الذين ستقر عيونهم لانضمامه اليهم كبير الشهداء.
وبقلم نايلة تويني تصدر النهار المقال التالي بعنوان : جدي غسان سلم على جبران وجاء فيه:
جدي، هل تذكر عند استشهاد والدي وكنا بعد في باريس، انك قلت لي: “لا أطلب منك ان تكوني رجلاً، بل على مستوى ما ينتظره منك والدك”. اليوم صارت المسؤولية أكثر والانتظارات أكبر. هكذا قبل صياح الديك رحلت، وفي وجداني ما تنتظره مني، فحملت وجعي وتوجهت إلى “النهار”، لأكتبك خبراً وداعياً.
جدي، لن أرثيك اليوم، ولن أبكيك. لا عبارات لدي تفيك بعض حقك. أمامك وأنت سيد القلم، تسقط الحروف، وتعجز الكلمات عن التعبير، في الحضور او في حضرة الغياب.
جدي، كبير العائلة، ومن بقي لنا بعد جبران، أين تذهب اليوم؟ ولماذا تتركنا وحيدات، أخواتي وأنا؟ أتذهب للقيا جدتي ناديا، أم عمتي نايلة، أم عمي مكرم، أم أخر ابنائك جبران؟
أتذهب إليهم، فتجتمع العائلة هناك في أحضان القديسين؟ هل تتطلعون إلينا من فوق؟ هل اشتقت إليهم واشتاقوا إليك، ولم تحسبوا جميعاً حساباً لشوقنا إليكم نحن المتروكين هنا؟
جدي، التحية والحب لك، اليوم وفي كل نهار، وكلما صاح الديك والفقد لقلمك، لفكرك، لعقلك، ولأدبك، لقلبك الكبير، الذي انشطر مراراً.
تحية حب ووفاء لك من العائلة، من “النهار” عائلتك وعائلتنا، من الديبلوماسية التي كنت مثالها، من بلد الأرز الذي حملت لواءه، وبلد ثورة الأرز، وبلد الشهداء، وبلد القديسين.
جدي غسان، هل تعي ما تفعل بنا اليوم، تترك شادية وحيدة، اما انا واخواتي فتجعلنا يتيمات فعلاً، فلا أب لنا، ولا جد، ولا عم، ولا عمة…
جدي، الذي ترقد اليوم مرتاحاً غير مطمئن، لن أحمللك شيئاً، ولا مسؤولية أمر، فما احتملته في حياتك لا يصمد حياله أحد، حتى الصخر تفتت، في حين كنت أنت الصخرة الجبل.
جدي، أحملك شوقي إليك، والى كل العائلة، قل لجبران، عندما تلتقيان، اننا نفتقده، وإننا اشتقنا إليه، سأزوركما معاً، انا وجبراني الصغير، في مار متر، في كل حين، سأصلي لكما، وصليا معي من اجل لبنان حتى تطلع عليه “النهار” كل صباح، ويعيش ملء القيامة.
تأكد دوماً اننا سنكون معاً وسنبقى معاً موحدين، اخواتي وأنا وشاديا وخالي مروان وكل الأسرة.
ومن أسرة Music Nation نتقدم بأحر التعازي لعائلة الراحل العملاق غسان تويني ولطاقم أسرة صحيفة ” النهار” والعاملين فيها … وليسكنه الله فسيح جناته