قبل ان اكتب غطست الحبر بماء الزهر، ومددت الكلمات في سهول الدراق حتى يسطع الكلام فيكون بحجم الصوت الذي نسيمه عواصف في الروح. وفيروز اشد غلاوة من الماس الملون في خزائن الجواهر. ثلاث مرات تناولت قربان حضورها على الورق. وفي كل مرة علينا ان نتطهر اكثر. فهي صوت الصلاة وصوت الذاكرة المنقوشة على شجر الشوح. هي فيروز الحلم وفيروز الحق.
مرة عندما عادت بعد غياب طويل راكنة خلف ابواب الانتظار وافتتحت تاريخ لبنان القادم من دخان الحرب، في التسعينيات عادت متوشحة بالامل، مطلقة صوت القداديس من ساحة البرج تقول الوطن الجريح قادم من معركة الظلام الى ضوء الصبح. يومها انخطف لبنان كله باتجاه الوسط التجاري وكان ردمة خراب وتراب، ابنيته مشوهة منخورة كحبة اكلها السوس. الارجل زحفت بالالاف كانها راحلة باتجاه قداس الفرح والخلاص الذي سترفعه السيدة بصوتها معلنة الزمن الجديد.
مرة اخرى في بداية الالفية الثالثة من بيت الدين .كان صوتها وهي تتمرن عند غروب الشمس على المسرح كانه الوهم بالنسبة الينا. السيدة تحكي كلاماً عادياً، السيدة تخطىء او تريد ان تصيب النوتة اكثر. تمرينها مع زياد قبيل المغيب انذر الحضور بالصمت فهذا لوح بيده وذاك ركع امام سطوعها، وذاك الطفل رمى طعامه كأنه شبع، أو خجل ان يحرك فكيه امام انشودة اشبعته. وذاك الذي اصابه دوار الجمال.
ومرة عندما تناولت سيرتها كاملة في جريدة “الأهرام” المصرية وكأني اريد ان اتوج نفسي بعطر صوتها وأدخل التاريخ لو قبضت على مفاتيح سيرتها.
فيروز الصوت القادم بالحرية لكل سجن فينا. فيروز الهواء الساكن في كل رئة منا. فيروز الحرية .. والأبدية وفيروز الرجاء..
فيروز التي رمتنا على شواطىء الحلم وتركتنا هناك مكبلة اليوم ممنوعة من الإنشاد.
فركت اسماعي جيدا هل ما يحدث حقيقة ام خرافة الزمن الواهن.
هل ما يشن دسائس ام واقعة جرمية على ابواب المحاكم. صاحبة الصوت مكبلة، فيروز الساطعة خلف افق المجد ممنوعة من الغناء.قالوا هناك ارث يجب ان يقسم، رحلوا الكبار تاركين سيف المراجل بلا حكم. والانكى من ذلك هناك تهديد لمن يحكي لمن يكتب. هناك غرامات لن يطالب بارث الحب وصوت الضمير وصدى الحرية. لكن التهديد اخفق امام عدل القضاء. نحن في النهاية نعيش في الوطن الفيروزي.
فيروز الايقونة التي عشقها يرشح زيتا ييفتح العيون المغمضة فيروز الوطن الساكن في العالم، والعالم بصوتها قيثارة حنين.
من يتجرأ على فعل ذلك ان يكم حنجرة السماء وتهاليل المساء.تعالوا اقسموا خبزكم معنا، وخذوا حقكم من جروحنا المبلسمة بحبها .تعالوا اخطفوا صوتها من اعماقنا، فهي لو بحت هناك صوتها صادح في دواخلنا.
إرث السماء لا يتقاسمه ابناء الارض.
فهي التي علمتنا الصلاة وعرفنا قدرة الالوهية في انا الام الحزينة ويوم علق علة خشبة.
ما يحدث ليس تقاسم إرث.. لأن الاحساس لا يورث، الابداع لا يورث. السكر لا يورث الصوت لا يورث والنبع الذي يضخ في الشتاء لا يورث ماءه الى الصيف. فيروز لا تكم ولا تمنع من الغناء بل تفتح لها النايات لتنشد وتصمت الجوقة لتبدأ قداسها.
فيروز التي لا نعرف عنها شيئا سوى انها نضرة كالثلج لا يزج بها امام المحاكم ولا خلف القضاة .فهي التي حكمتنا منذ نشأتنا وستبقى الحاكمة علينا وعلى اولادنا وتاريخنا. لان صوتها الجمال كله الذي وجدناه منذ بداية الخليقة.صوت فيروز لا يثمن بشيك او مبلغ او حق اغنية او لحن او طينة.
رحل الكبار وبقيت معنا كبيرة نشكر الله على هذه النعمة. لماذا اليوم تكسر جرة الذهب ويراد غنائم. فأن كنتم تريدون فيروز على الصليب كلنا سنحمل الصليب وكلنا نريد ان نجلد معها.
الخبرية بحد ذاتها صلب للكبار، ارتفعوا قليلا فهذا عناد وجنون. اسمعوا صوتها قليلا تعرفون ان لا فوضى في الكون ولا لؤم ولا كراهية ولا مال وفقط هناك شهية للحب وان جمالها يغسلكم بابهى العطايا وبأثمن من اي تركة.
فيروز الصامتة ستبقى صامتة هكذا عودنا كبرها .لكن ترداد صوتها ساكن فينا يقطع الصمت .وجودها يغضب حتى الضوء لانها ابهى من الضوء .لو كتمتم على نفسها لن تكتموا على نفسها فينا.
اطفئوا المسارح كسروا المكروفونات هددوا اغضبواعلقوا كلامكم في كل المحاكم. لن يهينها شيء صوتها اكثر عدالة صوتها اعلى من الشعر والموسيقى ومن اللحن. صوتها كل هذا ووحده كفيل ان يجعل الرماد وردة والرذيلة فضيلة.